الرئيسية » الثورة والتكرار

الثورة والتكرار

الثورة التونسية

بقلم : سنان العزابي*

يوجد في التاريخ من الوقائع ما يمكن ان نستدّل به على انه من بعض الاوجه تكراري خاصّة فيما يتعلّق بهذه الحوادث الكبرى التي نسمّيها ثورات.

وهو الامر الذي توقفت عنده كثيرا فلسفة هيجل وتأملّه ماركس من بعده في »الثامن عشر من برومر« مشدّدا على فكرة انّ الناس يصنعون تاريخهم وهم يستلمون ميراثا صنعه سابقوهم. إنّ ما يعنينا في هذا المقام هو أنّ هذا التكرار وبصرف النظر عن مسرحة ماركس له ضمن ثنائية التراجيديا / الكوميديا، فإنّه يفيد وفي جميع الحالات أنّ ثورة ضدّ ثورة هي أيضا من جنس ما يتكرّر داخل التاريخ بحكم انّ »شبح« الماضي هو عينه تلك الشروط التي يستلمها الناس ميراثا قائما لحظة انصرافهم إلى تغيير عالمهم، وهو الميراث الذي يكون ملاذ النّاس خاصة في لحظات الازمة التي تفصل بين ميلاد عالم جديد وموت عالم قديم، والتي يستدعي اثناءها الناس من منظور ماركس »أرواح السلف« كي يصنعوا ما يتصوّرون أنّه تاريخهم الخاصّ.

ليست الثورة ضدّ الثورة إذن مجرّد فزّاعة سياسية ضمن منطق الصراع الايديولوجي كما انّّها ليست من باب التنبيه الاخلاقي ضدّ من يفترض انهم متآمرين على الثورات، بل هي أساسا قائمة ضمن هذه الشروط التي يستلمها الفاعلون الثوريون دون ان يكون لهم دورٌ في اختيارها لهذا السبب رأى ماركس في ثورة 1848 نوعًا من المراوحة بين تقاليد ثورة 1789 واشكال ممارسات ثورة 1793 / 1795 مماثلا بينها وبين من يتعلّم لغة جديدة وهو يستمرّ دائما في ترجمتها إلى لغته الأمّ بما يعنيه ذلك من عدم تمثل لروح هذه اللغة الجديدة، من هذا المنطلق يشرح ماركس كيف أنّ 1848 كان »مستقبل الماضي«، ففي الوقت الذي تصوّر فيه صانعو الثورة انهم ينجزون مستقبلهم، كانوا في الحقيقة يجدّدون شباب ماضيهم.

ما حدث إذن وكما سيقول »دريدا« في »أطياف ماركس« هو أنّ »ثورة قام بها شعب ضدّ نفسه« في اللحظة ذاتها التي كان يكرّر فيها الثورة وهو الوضع الذي يبدو على ندرته جديرا بالانتباه.

صحيح أنّنا اليوم في زمن متقدّم عن زمن تجربة 1848 الفرنسية غير أن ذلك ليس تعلّة للتلفت عن تجارب التاريخ بالنسبة لمن يروم استشراف الارتداد الى الوراء قبل حدوثه ومن ثمّة أن يحسب حسابًا لتكرارية الثورة ضدّ الثورة.

إنّ ثورة مشتركُ صانعيها هو المطلب الديمقراطي سياسيا واجتماعيا ليست بمنأى عن الارتداد ضدّ نفسها اذا ما كان الهاجس الديمقراطي الذي بعثها الى الوجود، إمّا غائمًا تحت شعارات الحرّية والمساواة أو مختزلاً في نماذج يقدّر البعض لاسباب ايديولوجية وعقائدية انّها ناجحة وتصلح للاحتذاء بها، لقد لاحظنا أنّ معظم النقاشات الدائرة حول الديمقراطية، ورغم تباين المرجعيات التي تنطلق منها تشترك في نوع من الاختزالية التي تجعل من الديمقراطية مشكلاً يتعلّق بالتشريع القانوني الذي يترتب عليه »الحقّ في الحكم« بوصفه نتيجة لهذا التشريع نفسه وقد استند على الارادة الحرّة لمن ستتوجّب عليهم حينئذ طاعته من هذا المنظور فإنّ المشكل الديمقراطي يظهر مشكلا يتعلّق بالتفويض وآلياته التي يتعارف الفكر السياسي على تسميتها بالآليات الديمقراطية.

صحيح ان مسألة التفويض الصادر عن ارادة حرّة ويقظة تعتبر في لحظتها تقدّما مهما في الممارسة السياسية وذلك بالنظر إلى قيم الحرّية والمسؤولية التي تشترطها الصورة الشرعية لهذا التفويض، غير ان »صورنة التفويض« بإرجاعه إلى »الشكل الانتخابي الحرّ« يطرح أكثر من مشكل.

إنّ ما نعلمه عن تجارب كثيرة في ديمقراطيات عريقة مثل فرنسا نفسها (دون الحديث عن تجارب الديمقراطيات الجديدة في أوروبا بعد انهيار الاتحاد السوفياتي).

هو أنّ احلال نظام الانتخابات الحرّة لم يعد كافيا لاعتماده مؤشرا على »حياة ديمقراطية« بالنظر إلى مختلف اشكال اللامبالاة تجاه الشأن العام والتي تجسمّها النسب المتدنية للنّاخبين وحالة الارتياب أمام السياسة والسياسيين بل وحتّى الهرولة باتجاه أفكار وعقائد تعتبر الحديث عن سيادة الشعب ضربا من اللغو الذي يجرد الانسان الفرد من كلّ المعاني الحقيقية للوجود. لا أحد بامكانه أن ينكر اليوم ان فكرة الخلاص الفردي قد شقّت طريقها نحو أن تتعمّم، وفي خضّم هذا »الفراغ« تشهد ديمقراطيات عريقة صعود موجات اليمين المتشدّد الذي يقرن السياسة وتحديدا الشيء السياسي بفكرة العدوّ الممكن والمتربّص في مكان ما.

لم تعد السياسة في هذه الديمقراطيات شأنا عامّا بل هو شأن السياسيين ومن تقدر عليه الفنون الدعائية وحتّى الاشهارية لمحترفي السياسة بل لعلّنا لا نبالغ إذا قلنا ان فكرة المسؤولية نفسها بصدد الانحسار في ذهنية »المواطن الحديث«.

إنّ اختزال الديمقراطية في قضايا التفويض ومقتضياته اصبح يشكّل تهديدا للحياة الديمقراطية نفسها اذ انّ مسائل الصورة القانونية التي يركزّ عليها البعض تغفل اسئلة الغايات التي يستهدفها النّاس من وراء عيشهم المشترك والتي يفترض انّ المفوّض لهم أمر إدارة هذا العيش يستمدّون منها اختياراتهم وذلك على قاعدة ان هذه الغايات هي عصب التفويض ذاته.

إن ديمقراطية لا يناقش فيها المواطنون الغايات التي لاجلها يفوضون قواهم وسلطاتهم هي ديمقراطية قوانين صورية ليس فيها شيء من حرارة الحياة صحيح ان عنصر الكليّة L’universalité هو الاساس الذي تتمثّل داخله قيم المواطنة جميعها ضمن نسق قانوني غير اننا نعرف ايضا كيف انحرفت »قانونيا« مبادئ الحرية والمساواة الى جهة الليبرالية المتوحشة والى جهة »المساواة في العبودية« بل اكثر من ذلك الى تشريع للاستعمار باسم ما تمّ تصوّره إاحداثيات للطبيعة الانسانية يجوز أحيانا ان نفهم بصورة افضل عندما تبدأ الامور من النهايات التي بلغتها ولذلك نحن نسأل عن هذه الثورات التي قامت منذ القرن 19 وانتصر في اختتامها منطق الاستبعاد الذي سنكتشف داخله الديمقراطية على صورة صحراء لا زرع فيها من بوسعه انكار حقيقة ان ما سمّي في حينه ثورات ديمقراطية قد جسّدت في الاخير كلّ ما كانت تنهي عنه لحظة الابتداء؟

الثورات اذن تتكرّر وتتكرّر معها الثورات ضدّ الثورات وهذا ما ندعو الى تأمله كي لا يتكرّر معها ذلك القول المأثور: إنّ الانسان يتعلّم دائما بعد فوات الآوان.

*المرحوم سنان العزابي، أستاذ الفلسفة وأحد المؤسسين التاريخيين لحركة “الوطنيون الديمقراطيون(الوطد)” في تونس ، توفي سنة  2014 .

 

شارك رأيك

Your email address will not be published.

error: لا يمكن نسخ هذا المحتوى.