الرئيسية » مقترحات عاجلة وآجلة للخروج من الأزمة

مقترحات عاجلة وآجلة للخروج من الأزمة

تونس احتجاجات

بقلم : حكيم بن حمودة 

نشر حكيم بن حمودة وزيرالمالية في حكومة المهدي جمعة مقترحات للخروج من الأزمة الأخيرة في تونس وقد نشرت وجهة النظر هذه في جريدة المغرب يوم 25 جانفي وفي ما يلي نصها:

تعيش بلادنا منذ أيام على وقع الاحتجاجات والمظاهرات للمطالبة بتحقيق المطالب الاجتماعية للثورة. وقد انطلقت هذه المظاهرات على خلفية انتحار الشاب على إثر إعلان نتائج إحدى مناظرات الانتداب في الوظيفة العمومية.

وقد ذكّرتنا هذه الأحداث بسيناريو ثورة 2011 عندما بدأت الأحداث بعد انتحار محمد البوعزيزي أمام مقر الولاية في سيدي بوزيد لتشمل كافة البلاد. وقد انطلقت المظاهرات هذه المرة من مدينة القصرين لتتوسّع وتشمل عديد الولايات والمدن الأخرى وتصبح مواجهات بين الشباب والعاطلين وناشطي المنظمات الاجتماعية والسياسية وقوات الأمن.

وقد أثارت هذه التحركات، وإن لم تناقش القوى السياسية والحزبية مشروعيتها، أثارت عديد المخاوف بسبب عمليات النهب التي تم ارتكابها حيث اغتنمت عديد المجموعات الإجرامية فرصة هذه المظاهرات وفي بعض الأحيان تراجع قوات الأمن للتخريب والسرقة وحرق عديد المنشآت العامة والخاصة. كما أشارت عديد التقارير الأمنية إلى محاولة عديد الحركات الإرهابية اغتنام هذه الفرصة للتسرّب من جديد إلى المدن والإعداد لبعض العمليات والاعتداءات الإرهابية.

وبالرغم من صعوبة هذه الفترة والتخوّفات التي خلقتها هذه التحركات والمظاهرات على مستقبل التحول الديمقراطي في بلادنا فإنه لا بد من الإشادة بطريقة إدارة هذه الأزمة من كل الأطراف وهو شيء هام ويحسب للديمقراطية التونسية الناشئة. فمن خصائص الديمقراطيات تمكينها للحركات الاجتماعية والحركات المعارضة من التعبير عن آرائها في إطار القانون. وتسعى الدول والحكومات في هذه الديمقراطيات إلى حماية هذه الحقوق وتمكين المواطنين من ممارستها.

وبالرغم من الطابع العنيف في بعض الأحيان لهذه المظاهرات فقد عمل الجميع على حمايتها من أعدائها أي المجرمين والإرهابيين. حيث تكثفت الدعوات على شبكات التواصل الاجتماعي إلى تجنب العنف والتخريب والقيام بمظاهراتهم وتحركاتهم في إطار سلمي. كما سعت الأجهزة الأمنية إلى التعاطي مع هذه التحركات بكثير من المسؤولية وإلى تجنب العنف والعمل أساسا على حماية المنشآت العمومية والخاصة وضبط النفس حتى في أصعب الحالات والظروف. وقد لقيت طريقة القوات الأمنية في التعاطي مع الأحداث الكثير من القبول.

وقد كانت لدعوات المجتمع المدني بتجنب العنف والتخريب وتعاطي القوات الأمنية إلى جانب إقرار حضر التجول تأثير كبير على هذه التحركات وعلى التنقيص من حدة الاحتقان.

وفي عديد المدن رأينا المواطنين يخرجون إلى الشوارع لمعاضدة الأجهزة الأمنية في حماية المؤسسات الاقتصادية والمنشآت الإدارية. كما شاهدنا كذلك في عديد المدن خروج المواطنين لتنظيف الشوارع من آثار التخريب والعنف والتهديم. وذكرتنا هذه المواقف بالأيام الأولى للثورة حيث طغى الحس المواطني وعمل المواطنون على المساهمة في إدارة البلاد بكثير من المسؤولية وروح التعاون والالتزام طمستهم سنوات طويلة من الاستبداد والسلطة القوية.

ولئن تراجعت حدة المظاهرات والتحركات فإن الأزمة الاجتماعية الخانقة والناتجة عن واقع البطالة وتهميش الجهات الداخلية والتي لعبت دورا كبيرا في سقوط النظام السابق لازالت قائمة. وقد كانت قضيتا البطالة والتهميش في كنه وقلب التحركات الاجتماعية خلال الخمس سنوات الفارطة واعتبرها الفاعلون الاجتماعيون أحد أهم استحقاقات الثورة التي يجب الإيفاء بها.

وأشارت عديد استطلاعات الرأي والدراسات والتحقيقات الصحفية إلى عدم رضاء فئات واسعة بأداء سياسات ما بعد الثورة في التعاطي مع المسألة الاجتماعية وتقديم الحلول القادرة على الحد من البطالة ودعم الاندماج الاجتماعي. ولئن نجحت الثورة في بناء نظام سياسي جديد ودعم التحول الديمقراطي ومبادئ الحرية والتعدد فإن النتائج الاقتصادية والاجتماعية بقيت محدودة وضعيفة إذا ما قارنّاها بمستوى الانتظارات والآمال التي فتحتها الثورة. وأكدت الدراسات والتحقيقات أن الجهات والمناطق المحرومة تعيش على فوهة بركان يمكن أن يشتعل في أي وقت. وأكدت أن مخزون الغضب وصل إلى حد كبير ينبئ بثورات قادمة.

وقد كانت هذه الأحداث فرصة للاطلاع على بعض التقارير التي أعدتها بعض المنظمات الدولية الموجودة في بلادنا كبرنامج الأمم المتحدة للإنماء لا فقط للاطلاع من جديد على عمق الأزمة الاجتماعية وأهمية البطالة والتهميش بل كذلك للوقوف على ضعف أدائنا بالرغم من الوعود التي أخذناها على أنفسنا. وأريد الإشارة هنا إلى بعض المعطيات التي تؤكد عمق التحدي الذي نواجهه.

فعلى مستوى الفقر مثلا تشير أرقام التقرير الذي نشرته الأمم المتحدة وبرنامجها الإنمائي في تونس لسنة 2013 أن هناك عدم توازن هام بين الجهات. فالفقر الذي حددته الأمم المتحدة بأقل من دولار دخل يومي يمس الجهات الداخلية وبصفة خاصة الوسط الغربي أكثر من الجهات الساحلية وإذ يمس الفقر شخصا على ثلاثة في الوسط الغربي فإن هذه النسبة تصبح بشخص على خمسة في جهات الوسط الشرقي وتونس الكبرى. كما أشار هذا التقرير إلى نمو هذه الفوارق بين الجهات منذ بداية الألفية فمثلا نسبة الفقر المدقع بجهات الشمال الغربي والوسط الغربي تمثل 8 و13 مرة لنفس النسبة في تونس الكبرى سنة 2010 وهذه النسب لم تكن تتجاوز 2,8 و5,9 سنة 2000.

ونلاحظ كذلك عدم التوازن على مستوى التشغيل بين الجهات الداخلية والجهات الساحلية. فنسبة البطالة حسب هذا التقرير وصلت سنة 2012 إلى 51,7 % في ولاية توزر بينما كانت بــ 8,9 % بولاية زغوان أو 5,7 % بولاية المنستير.

كما نلاحظ كذلك هذه الفوارق الجهوية على مستوى التعليم. فالانخراط في التعليم بالنسبة للأطفال بين سن 6 و11 سنة وصل إلى نسبة 99,5 % لتونس الكبرى بينما بقي في مستوى 92 % في ولاية القصرين سنة 2011. ونلاحظ هذه الفوارق كذلك على مستوى النجاح في المدارس الابتدائية والثانوية. وقد أشار هذا التقرير إلى الميادين الاجتماعية الأخرى كالصحة والمرأة والوفاة في السنوات الأولى للأطفال والمساواة بين المرأة والرجل على جميع المستويات.

تشير هذه الأرقام إلى عمق الأزمة الاجتماعية التي تواجهها بلادنا والتي كانت وراء اشتعال الثورة في 2011 والتي ستبقى كابوسا يؤرق مضاجعنا ويمكن أن يشعل لهيب الاحتجاجات وعدم الاستقرار إن لم نكن قادرين على إيجاد الحلول الكفيلة بتجاوزه.

كما تشير كذلك هذه الأرقام وعمق التحدي الاجتماعي إلى فشل السياسات الكلاسيكية أو التقليدية في التعاطي مع هذه الأزمة. ولا بد لنا اليوم من القطع مع هذه السياسات والعمل على إيجاد أجوبة بديلة وغير تقليدية كفيلة بفتح آفاق جديدة للمسألة الاجتماعية وإعادة إحياء الأمل والثقة في المستقبل اللتين نفختهما ثورتنا في نفوس الشباب وفي تفكيرهم وأحلامهم.

وتعتمد في رأيي السياسات التي أقرت هذه التحركات الأخيرة بفشلها على مبدأين. المبدأ الأول هو ربط المسألة الاجتماعية بالنمو الاقتصادي وجعل التشغيل والتوازن الجهوي هو نتيجة للعملية الاقتصادية ولآليات السوق. وتعطي هذه النظرة الليبرالية التقليدية ثقة كبيرة لآليات السوق في خلق المناخ لتوزيع وسائل الإنتاج بطريقة فعالة تمكّن من إيجاد توازن اقتصادي واجتماعي يمكّن المجتمعات من تجاوز الأزمات وحتى عدم الوقوع فيها.

وقد أثبت هذا المبدأ والسياسات الاقتصادية والاجتماعية التي اتبعته عجزها وعدم قدرتها على حل المشكلات الاقتصادية والاجتماعية مما دفع النظرية الاقتصادية والسياسات بالسماح بتدخل الدولة لإصلاح ما لم يمكن للسوق والنمو (croissance) القيام به.

وفي بلادنا أثبت هذا التمشي عجزه لعديد الأسباب. السبب الأول فهو ضعف النمو وبالتالي عدم قدرته على خلق مواطن شغل بالعدد الكافي لاستيعاب القادمين الجدد على سوق الشغل. فنقطة النمو في بلادنا تنتج ما يقارب على 15.000 موطن شغل والتالي لا بد من تحقيق 5 % من النمو لاستيعاب 000 75 قادم جديد على سوق الشغل سنويا. ولم تعرف بلادنا هذا المستوى من النمو منذ الأزمة الاقتصادية العالمية مما جعل البطالة تتراكم ونسبتها ترتفع.

أما السبب الثاني فهو أن بلادنا ورثت منذ سنوات مخزونا هاما من البطالة تجاوز اليوم 600,000 ألف شخص مما يجعل النمو وحده غير قادر لحل معضلة البطالة. كما أثبت هذا التمشي كذلك عجزه في التعاطي مع مسألة الفوارق الجهوية باعتبار أن الاستثمار الخاص يتجه بصفة أساسية إلى الجهات التي تتمتع بالمرافق والتجهيزات الضرورية.

وأمام عجز آليات السوق في حل المعضلة الاجتماعية فقد ظهر تدخل الدولة والسياسات العمولية لإصلاح الأزمات الاجتماعية. فظهرت سياسات حكومية لدعم التشغيل والتنمية الجهوية من خلال إسناد المنح والتحفيزات. وقد اتبعت بلادنا هذه السياسات فقامت بإيجاد آليات اجتماعية كبرنامج أمل والآلية 16 وبرنامج العائلات المعوزة وغيرها من البرامج الاجتماعية لدفع التشغيل.

وقد أثبتت كل هذه البرامج محدوديتها إن لم نقل فشلها فلم تساهم هذه البرامج في دفع التشغيل وخلق مواطن شغل وتحسين تكوين طالبي الشغل. وإلى جانب هذا العجز فإن كلفة هذه البرامج على المالية كان هاما مما دفع الحكومات المتتالية للحد منها في إطار سياسات معالجة أزمة المالية العمومية.

وفي نفس الوقت فلم تنجح هذه السياسات في التقليص من عدم التوازن الجهوي ودفع الاستثمار لهذه الجهات المحرومة بسبب تخلّف وتردي البنية التحتية.

إذن عجزت السياسات التقليدية المتبعة منذ سنوات في رفع تحديات البطالة والتهميش وبقيت الاستحقاقات الاجتماعية للثورة من شغل وكرامة وطنية إلى حد الآن مسائل معلقة مما ساهم في الاحتقان والإحباط الذي ساد الأشهر الأخيرة.

وإن كنا نعتقد أن هذه المسائل معقدة وليس من السهل الرد عليها بسرعة فإننا مقتنعون أن الإجابات تكمن في الخروج عن السائد أو طاحونة الشيء المعتاد للبحث عن حلول جديدة وابتكار إجابات مختلفة. وسنحاول في نهاية هذا المقال تقديم بعض المقترحات للنقاش حول هذه المسائل وإن كنا نؤكد من جديد على صعوبتها.

إن التعاطي مع هذه المسائل والرد على أزمة البطالة والتهميش يتطلب إجابات عاجلة للحد من الاحتقان وإجابات على المدى المتوسط هدفها وضع اقتصادنا على سكة النمو السريع والصعود الاقتصادي (émergence).

بالنسبة للآتي أو البرنامج العاجل لتقديم بعض الحلول والرد على تحديات البطالة والتهميش فإننا نقترح برنامجا في خمس نقاط:

1 النقطة الأولى

تهم التشغيل وضرورة الخروج من البرامج التي لم تساهم في السنوات الفارطة لا في دعم التكوين أو فتح آفاق جديدة للشباب المعطل. كما أننا نعتقد أن القطاع العمومي لا يمكنه استيعاب أكثر من العاطلين. وفي هذا الإطار فإننا نقترح عقدا وطنيا من أجل التشغيل مع القطاع الخاص على مدى سنوات تلتزم بموجبه هذه المؤسسات بالارتباط بأحد خريجي التعليم العالي على سبيل التجريب لمدة سنتين أو ثلاث يتمكن خلالها الشاب من الحصول على تجربة عملية قد تمكنه من شغل في نفس المؤسسة أو مؤسسة أخرى. ويمكن للجنة وزارية بإشراف السيد رئيس الحكومة من جهة وممثلي الأعراف من متابعة هذا البرنامج وإعطاء المؤسسات التحفيزات اللازمة لكي لا يكون هذا البرنامج عبئا ماليا خاصة في هذه الظروف الصعبة.

وفي بلادنا نُعدّ اليوم قرابة 300,000 مؤسسة اقتصادية إذا التزم خمسها 1/ 5 سنويا بهذا البرنامج فإننا سنتمكن في ظرف ثلاث سنوات من التقدم جديا في حل معضلة 200,000 من المعطلين من أصحاب الشهائد.

2 النقطة الثانية

تهم الاستثمار وفي هذا الإطار أريد الإشارة إلى التجربة الهامة التي قامت بها إحدى المجموعات الصناعية في بلادنا من بعث معمل في مدينة سيدي بوزيد نقطة انطلاق الثورة وقد افتتح هذا المعمل وانطلق في أشغاله سنة 2014. كما بدأت على حد علمي بعض المجموعات الصناعية الأخرى وفي إطار مسؤوليتها الاجتماعية في دراسة إمكانية بعث مؤسسات أخرى في بعض الجهات. وهنا أقترح عقد استثمار بين أهم المجموعات الصناعية والدولة يتم بموجبها بعث عشر مؤسسات في كل ولاية ويقع تمتيعها لذلك بكل التسهيلات والتحفيزات اللازمة. وفي تقديرنا وإن كان معدل تشغيل هذه المؤسسات الجديدة 200 عامل فإننا سنتمكن من خلق 200,000 في أربع سنوات.

3 النقطة الثالثة

تهم مؤسسات التمويل والبنوك وتتعلق بضع عقد لتمويل العديد والآلاف من الشباب الحاملين لمشاريع والعاجزين على تحقيقها ويعمل هذا العقد على تجاوز الصعوبات الإدارية لتمكين هؤلاء الشباب من تمويل مشاريعهم ويمكن أن نضع هدفا بتمويل 15,000 مشروع سنويا.

كل هذه المقترحات إن تم تطبيقها ومتابعتها بصورة جدية كأولوية وطنية كبرى للحكومة فإننا نعتقد أنها ستفتح آفاقا هامة للشباب المعطل وتعيد الأمل الذي غيبته سنوات الإحباط والعجز.

4 النقطة الرابعة

النقطة الرابعة في هذا البرنامج الاستعجالي تهم المرافق العمومية في الجهات الداخلية. وكما أشارت الدراسات والأرقام المقدمة فإن هذه الجهات تشهد تأخرا كبيرا في المرافق العامة كالصحة والدراسة وقد بيّنت الوفايات الأخيرة في ولاية توزر إلى تدني الوضع الصحي في عديد المناطق الداخلية وخطورته على صحة وحياة المواطن في مجالات صارت عادية كالولادة.

وهنا يتعين على الوزارة والحكومة القيام ببرنامج تأهيل حقيقي وطموح للمرافق الصحية والتعليم فيقع تخصيص 3 مليارات دينار على ثلاث سنوات (معدل مليار دينار سنويا) لهذا البرنامج من ميزانية الاستثمار. ويقع الإعلان عن هذا البرنامج وتحديد أهدافه بوضوح ومتابعة نتائجه عن طريق لجنة وزارية وتكون أشغالها مفتوحة بإبراز التطور الحاصل في إنجاز هذا البرنامج.

5 أما النقطة الخامسة

وتخص النقطة الخامسة في هذا البرنامج التكوين وضرورة ضبط برنامج طموح يهدف إلى تأهيل على الأقل 50,000 عاطل عن العمل سنويا. ويتجه هذا التأهيل إلى العاطلين وغير الحاصلين على شهائد والمنقطعين عن العمل بتكوينهم في حرف معينة. ويمكن لنا هنا أن نستفيد من تجربة التكوين المهني في بلادنا والتي مكّنتنا على مدى سنوات طويلة من تكوين أجيال عديدة من الحرفيين لعبوا دورا كبيرا في النمو الاقتصادي الذي عرفته بلادنا في السبعينات. كما يمكن لنا كذلك أن نستفيد من تجربة عديد البلدان الأخرى كألمانيا والتي عبّرت عن استعدادها لدعم جهودنا في هذا المجال.

هذه إذن خمس نقاط لبرنامج استعجالي للرد الإيجابي على استحقاقات الثورة وانتظارات المواطنين على المستوى الاجتماعي. وهدفها هو تقديم مقترحات عملية وبرامج طموحة تمكننا من الخروج من البطالة وأشكال التشغيل الهش والتهميش وتزرع الأمل من جديد لدى الشباب والثقة في قدرة الدولة على الاستجابة لمطالبهم وأحلامهم وانتظاراتهم.

إلا أن هذا البرنامج العاجل يتطلب كذلك برنامجا على المدى المتوسط يهدف إلى بناء نمط جديد للتنمية ودفع عملية التنمية ودرء التهميش والبطالة والفقر. وأقترح هنا برنامجا على مستوى الأربع سنوات القادمة يرتكز على خمس نقاط أيضا.

1 النقطة الأولى

تهم ضرورة ضبط برنامج أشغال كبرى برنامج طموح بمستوى الانتظارات وقادر على جعل بلادنا من الاقتصاديات الصاعدة على المدى المتوسط. ونقترح أن يتجه هذا البرنامج إلى البنية التحتية والتي سجلنا فيها تأخر كبيرا في السنوات الأخيرة.

ويمكن أن نضبط لهذا البرنامج مستوى استثمار سنوي بـــ 20 مليار دينار أي ما يمثل 100 مليار دينار في خمس سنوات ولا يمكن للدولة تمويل هذا البرنامج نظرا لإمكانياتها المحدودة ولضرورة عدم إثقال كاهلها بمديونية أكبر. ويمكن لنا في هذا الإطار التعويل على الشراكة بين القطاع الخاص والقطاع العام لتمويل هذا البرنامج الطموح. وهنا نقترح تكوين وكالة للاستثمارات الكبرى أو المشاريع الكبرى كما نجدها في عديد البلدان الأخرى. وتكون أول مهمة لهذه الوكالة هي بناء بنك للمشروعات الكبرى تساهم في تحديدها مكاتب الدراسات التونسية والتي أصبحت لها تجربة كبيرة في هذا الميدان وحتى على المستوى العالمي ويمكن لها أن تستفيد من تجارب أهم مكاتب الدراسات العالمية. وعند إعداد هذه المشاريع وإتمام دراساتها يمكن لنا تنظيم ندوة دولية للاستثمار نقدم فيها للمستثمرين الأجانب أهم مشاريعنا.

ولهذا البرنامج الاستثماري الضخم فوائد كبيرة على اقتصادنا. فهو من جهة سيدفع النمو بطريقة كبيرة وبالتالي سيفتح مجالات كبيرة للتشغيل. كما سيدعم هذا البرنامج قدرتنا التنافسية ويدعم بالتالي صادراتنا إلى الأسواق العالمية وسيجلب عددا أكبر من الاستثمارات الخارجية. كما سيدفع هذا البرنامج الاستثماري الضخم الاستثمار الخاص الداخلي ويعطيه فرصا أكبر للمساهمة في التنمية.

2 النقطة الثانية

النقطة الثانية في هذا المشروع المتوسط المدى تخص الإصلاحات السياسية كتعصير الإدارة والإصلاح البنكي والمالي وإصلاح الجباية والتعليم ومنظومة التكوين والإطار القانوني للاستثمار وغيرهما…

وهنا نؤكد على أهمية هذه الإصلاحات لدفع النمو الاقتصادي وأكدت التقارير والبرامج الحكومية في السنوات والأشهر الأخيرة على أهمية هذه الإصلاحات إلا أننا نريد التأكيد على أمرين:

الأول أن حركة ونسق الإصلاحات تراجع ولا بد من التسريع فيه والتحلي بالجرأة الكافية للقيام ببعض الإصلاحات الصعبة.

والأمر الثاني يخص محتوى هذه الإصلاحات فالمتتبع اليوم لبعض الإصلاحات التي تم تقديمها يرى أن بعضها لم يخرج عن مبدإ طاحونة إعادة إنتاج الشيء المعتاد. فالعراقيل الإدارية هي نفسها وروح المبادرة بقيت مكبّلة.

إن بلادنا تحتاج إلى نفس إصلاحي جدي وحقيقي يدفع بالاستثمار ويدعّم النمو ويساهم في تحقيق مطالب الثورة ويدفع ببلادنا إلى خانة الاقتصاديات الصاعدة. ويمكن لنا متابعة إنجاز هذه الإصلاحات وتنسيقها والتسريع في نسقها من خلال خلق مصلحة خاصة وزارية على مستوى رئاسة الحكومة مهمتها الأساسية الإصلاحات الاقتصادية.

3 النقطة الثالثة

النقطة الثالثة لهذا البرنامج الاقتصادي المتوسط المدى يخص القطاعات الواعدة. لقد خسرنا في السنوات الأخيرة الكثير من الوقت في الحديث النظري حول نمط التنمية الجديد الذي يجب بناؤه لتجاوز أزمة نسق التنمية الحالي. وفي تقديري لا بد لنا أن نخرج من هذا الجدل الذي أخذ في بعض السجالات شكلا بيزنطيا والخوض في الجوانب العملية لنمط التنمية الجديد. وفي تقديري فإن أحسن طريقة في بناء هذا المشروع الجديد تخص القطاعات الواعدة والتي تمكّن بلادنا من الخروج من القطاعات التي تعتمد على قوة العمل والتوجه للقطاعات ذات الكثافة

التكنولوجية العالية. وقد بدأت بلادنا هذا التحول منذ سنوات من خلال تطور الصناعات الالكترونية وقطاع السيارات وصناعة الطائرات. وقد حققت بعض مؤسساتنا الاقتصادية نجاحات هامة في هذه القطاعات الصاعدة وتمكنت من بناء قدرة تنافسية كبيرة. ولا بد لنا من مواصلة العمل بأكثر حزم في تطوير القطاعات الواعدة من خلال تخطيط محكم وبتنسيق بين الدولة وأهم المجموعات الصناعية الكبرى في بلادنا.

وعلى غرار تجربة النمور الآسيوية ككوريا وتايوان وسنغافورة فإننا نقترح تكوين مجلس استثماري بين الدولة وأهما لمؤسسات الصناعية هدفه تحديد هذه القطاعات الواعدة وتخطيط عملية الدخول لها ووضع الإطار القانوني والتحفيزات الضرورية لتمكين مؤسساتنا من ولوجها وبناء قدرة تنافسية هامة في هذه القطاعات.

4 النقطة الرابعة

أما النقطة الرابعة في هذا البرنامج فهي تخص الاندماج الاجتماعي وضرورة دعم التحول الديمقراطي بنسيج اجتماعي متوازن يحمي الفئات الضعيفة ويدعّم ثقتها بالدولة والمجتمع وينأى بها عن مخاطر بائعي الأوهام ومحترفي الإرهاب. وبالاندماج الاجتماعي إلى جانب دفع التشغيل يتطلب إصلاح منظومة الضمان الاجتماعي والشيخوخة مما سيدعم أواصر التعاون في المجتمع والتواصل بين الأجيال.

5 النقطة الخامسة والأخيرة

النقطة الأخيرة في هذا البرنامج المتوسط المدى تهم التنمية المستديمة وضرورة المحافظة على المحيط وحمايته من التقلبات المناخية. إن بلادنا قامت بعمل هام في هذا المجال في السنوات السابقة إلا أننا لاحظنا تأخرا كبيرا في السنوات الأخيرة مقارنة مع عديد البلدان كالمغرب التي قامت بعمل جبار لتطوير الطاقات البديلة. ولا بد لنا في هذا المجال من تطوير برنامج استثماري كبير لتطوير ودعم الطاقات البديلة. ولا يهدف هذا البرنامج لحماية المناخ فقط بل كذلك إلى تقليص تبعيتها للبترول والذي ساهمت تقلبات أسعاره العالمية في عدم الاستقرار الاقتصادي الذي عرفته بلادنا.

هذه المقترحات هي مساهمة للخروج من الأزمة الاجتماعية التي تعيشها بلادنا منذ سنوات نظرا لعجزنا على تحقيق أهداف الثورة في الشغل والكرامة ومحاربة الفقر والتهميش. وكما تعمل هذه المقترحات على ا لرد العاجل على هذه الأزمة وفي نفس الوقت فتح مجال نمو وآفاق جديدة للمرور ببلادنا إلى مواقع متقدمة من الناحية الاقتصادية لتصيح اقتصادا صاعدا خلال السنوات القادمة. ونرمي من وراء هذه المساهمة البسيطة إلى دفع النقاش العام للخروج من النقد العنيف في بعض الأحيان والمرور إلى موقع المقترحات العملية والبرامج لدعم التحول الديمقراطي الذي تقدمت فيه بلادنا أشواطا كبيرة بتحول اقتصادي واجتماعي يجتث العنف من ربوعنا ويزرع الأمل والحلم بغدٍ أفضل لدى شبابنا.

 

شارك رأيك

Your email address will not be published.

error: لا يمكن نسخ هذا المحتوى.